تلاشي البنية الفوقية ودوره في عوز البنية التحتية / الشيخ عبدالله الشيخ المختار

يعتبر الجهل والفقر أعداء الوطنية ومكمن الشرور، وهي نتاج الرأسمالية المتوحشة التي لا تقيم وزنا للقيم، حيث حولت العالم إلى غابة يأكل فيها القوي الضعيف.

تمثل القيم والأخلاق والدين والثقافة البنية الفوقية التي تحفظ للإنسان إنسانيته، بينما تختزل البنية التحتية في كل ما هو مادي كتشييد الطرق والمستشفيات والجسور وغيرها من المنشآت المادية. لكن ضعف البنية الفوقية كضعف الوازع الديني وموت الضمير الأخلاقي الإنساني جعلت بهيمية الإنسان تطغى عليه فتقوده، ليسخر كل شيء لخدمة رغباته، وهذا ما يجعل البنية التحتية مهترئة، فتختفي المعايير ولذلك لا تعمر المشاريع طويلا.

والتاجر أحيانا يستورد أدوية مزورة لا يأبه إذا ما كان ما يفعله أخلاقيا أم لا؟! همه الربح فقط، وقد خاطب صيني مرة موريتانيا بقوله: أنت تمتنع عن شرب الكحول وأكل لحم الخنزير، ومع ذلك تزور الأدوية، فأنت تمتنع بحكم دينك عما يضرك وحدك وتعمد إلى ما يهلك أمة بكاملها، فأي منطق هذا؟!. انتشرت السرطانات جراء الأدوية المزورة والمواد الغذائية منتهية الصلاحية وغيرها من مواد مضرة بالصحة كمواد تبييض البشرة، وهذا السلوك المشين هل يعقل أن يصدر عمن يصلي الصلوات الخمس، ويعرف حقوق المسلم على أخيه، ” لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” “لا ضرر ولا ضرار” ، ومما يندى له الجبين أن يخدع مسلم أو يخون أمانة استودعها إياه بنو جلدته باختلاس حقوق الناس، وهو يتأكد يقينا أنه سيحاسب {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم}، واتكالنا على أن العقاب مؤجل جعل البعض يرتكب الموبقات دون أن يحسب حسابا لذلك وقد تباغته الموت على حاله هذا ولات ساعة مندم، ومن فرط تعلقنا بالمال وإكرامنا لأهله لا نسأل عن مصدره، ولا نهتم بسلوك الأفراد، ويتوكأ الفرد على قبيلته، وحاضنته الشعبية والسياسية والجهوية، ثم يفعل ما يحلو له، لكن الله يمهل ولا يهمل.

سأفعل ما يحلو لي ثم آوي

إلى جار كجار أبي دواد

 

نحن نعيش أزمة قيم، فحمى حب المال أعمت نفوسنا عن السبب الحقيقي لخلقنا وغايتنا من الوجود {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، فانشغل الناس في التنافس في الدنيا بالطرق المشروعة وغير المشروعة، وضربوا صفحا عن تقييد ذلك بالدين وما تمليه الفطرة السليمة، وهكذا تكاثرت الذئاب البشرية التي تحكمت في مصائر العباد والبلاد وأهلكت الحرث والنسل، وحدث انقلاب في القيم، إلا من رحم ربك، فأضحت المادة أولا، وتلاشت قيم الأمانة، والصدق، والفضيلة، والإيثار، التي يمكن أن توجه البوصلة من جديد، وتحفظ للإنسان كرامته.

تتابعت السنون وأكل الضعيف يوم أكل الثور الأبيض، بتجزئة المجزأ، وكل يقتنع بأنه المهم وغيره لا قيمة له، وهذا المنطق جعل الناس عزين معوزين، جماعات متفرقة تائهة فاقدة للتوجيه السليم، كل يرى الآخر عدوا له وحزنا، فالتقط الغرب هذه الفرصة لتخدم مشروعه وللأسف وجد آذانا صاغية مرر من خلالها سمومه التي نفثها في روع الأمة لتنخر عظامها، وفي كل مرة يحاول البعض حل المشاكل العالقة ينشغل بالصور الشكلية، ويقيم المؤتمرات، فإنه يكثر الحز ويخطئ المفصل، فيبقى الوضع كما هو بل يسوء أكثر، فلا نجاة لنا إلا بالعودة إلى قيمنا وديننا الحنيف، وترسيخ خصوصيتنا لتصمد أمام الوافد الأجنبي الذي دخل علينا دون استئذان فسلبنا هويتنا، فليست الإبادة أن تمحو شعبا من على ظهر البسيطة لكن أن تسلب مجتمعا ما ثقافته فتلك هي الإبادة الحقيقية. علينا أن نسمي الأشياء بمسمياتها فعديمو القيم السراق والمنافقون والمتفيهقون لا تنفعهم أموالهم التي جمعوها من الحرام ولا جاه لهم ولا مكانة {فسينقونها ثم تكون عليهم حسرة}، ولننبذ من يسرق عرق المجتمع ويجعل منه مطية لبلوغ مآربه وغاياته وأهدافه.

إن وراء الأكمة ما وراءها، فالواقع بلغ حدا لا يمكن التساهل فيه، ولم يعد خافيا استهتار البعض بالدين والقيم، فما أهمية أن يعلم المسلم أن الشريعة عصمته ” كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه”، “لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن بغير حق”، ومع ذلك تنتهك حرماته دون أن يحرك ساكن، وهذه معضلة ولا أبا بكر لها! فالإسلام حفظ للإنسان حقوقه، ولا يجوز المساس بها، ولا مناص من معرفة مواطن الخلل ومعالجتها، والتوازن بين القيم الفوقية والبنية التحتية مطلوب، فعندما يتحلى السياسي والإداري والمهندس والطبيب والمعلم والتاجر بالقيم الفوقية كأن يتحلوا بالصدق والأمانة فإن هذا سينعكس على المخرجات والخدمات، كل من موقعه مطالب ببذل قصارى جهده ليقدم أفضل ما يستطيع سبيلا لخدمة وطنه، مراقبا لنفسه، إرضاء لخالقه.

الرقابة نوعان، هناك رقابة ذاتية يمارسها المسلم على نفسه، فيلوم نفسه، ويمنعها من فعل ما يضرها ويضر بالآخرين، وهناك رقابة الغير التي تقوم بها الأمة حيث تسير بعثات للتفتيش وهيآت رقابية، وهي مكلفة ماديا أكثر مقارنة بالرقابة الذاتية، وعندما يصلح الفرد يصلح المجتمع فتتضاءل الحاجة لرقابة الغير.

كما أن للتربية دورا محوريا إذ اتسع الخرق على راقع، فعلينا أن نربي أبناءنا في زمان الفتن- كقطع الليل المظلم- على القيم باعتباره حجر الزاوية في بناء الإنسان، والمال الحرام لا ينفع صاحبه، وسيكون وبالا عليه في الدنيا، وسيحمله على ظهره يوم القيامة، إذ يقول له النبي صلى الله عليه وسلم:” لا أملك لك شيئا، قد بلغتك”، فالإنسان سيترك المال الحرام الذي جمعه من غير حله ووضعه في غير محله وراءه، ليعبث به بنوه ويحاسب على ذلك. لنعد من جديد إلى جادة الحق ومنبع الفضيلة ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فنقدر أهل العلم وننزلهم منزلتهم، ونقدر الثابتين على مبادئهم، ونجل القابضين على الجمر، ونسند الأمر إلى أهله.

وانساق الناس لغفلتهم

والرافض يقمعه التابع

وازدرد الذل جماهيرا

لا زاجر يحجب أو رادع

بقلوب عدمت نخوتها

ما فيها من دين وازع

بثياب تفضح لابسها

والخرق اتسع على الراقع

 

وللمدرسة دورها الذي لا محيد عنه لتمنحنا إنسانا صالحا، لا أن يدرس في الخارج، ويتعالج في الخارج، فيضعف ولاءه للوطن، فلنتعلم في المدرسة كما هو حال اليابان التي تربي الطفل داخل الفصل الدراسي على احترام من يماثله، ومن هو أعلى منه منزلة ومن هو دونه، وبهذا يتعلم أسلوب التعامل الصحيح مع الكبير والصغير، الرئيس والمرؤوس، ويرافقه معلمه ليعلمه السلوك الصحيح كطريقة الجلوس الصحيحة، وطريقة الأكل الصحية، وترتيب ملابسه، والاعتناء بنفسه، ويتعلم ترشيد موارد المدرسة كمدخل لترشيد الموارد العمومية، ويتم اكتشاف مواهبه، وتحديد شخصيته، واحتياجاته، ومشاكله التي يعاني منها، حتى تتم معالجتها لئلا تتراكم وتعيقه، ويتعود على روح الفريق، وتقوى ثقته بنفسه. هذه المدرسة ذات النزعة اليابانية تحمل الناس على الابتكار ويسمح لكل مدرسة حرية اختيار المعلمين وطاقمها الذي يقودها محليا، لكن تنقط اعتمادا على المتفوقين في الجامعات ينظر في سجل الطالب من الابتدائية حتى الثانوية وبالتالي تمنح المدارس الابتدائية نقاطا على هذا الأساس، وهذا مدعاة للتنافس.

يتعلم الطفل في المدرسة قيم الإيثار ومد يد العون لأخيه الإنسان، وعلينا أن نعلم الطفل التعامل مع الطوارئ والأحداث والواقع بشكل عام، كطريقة تعامل الطفل مع الغريب، أو التعامل مع الحريق، وتسيير ميزانية البيت، والتكوين الرياضي السليم حتى ينسجم مع تكوينه الروحي والقيمي، وتحديد الضروريات والكماليات، واحترام الشارع، والمؤسسات العمومية، واعتبار موارد الدولة مشتركة بين الجميع، فلا يستأثر بها شخص دون الآخرين، وهذا ما أكده النبي صلى الله عليه وسلم:”الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار”، علينا إذن تعزيز البنية الفوقية والتحلي بالقيم الفوقية حتى لا يدخر أي منا جهدا في سبيل خدمة وطنه فتكون لدينا بنية تحتية قوية، فيكتمل البنيان وتعززه القواعد والأركان.