في أحدث إشارة إلى استمرار تعاونها وتنسيقها في ما بينها بإطار "تحالف دول الساحل" الذي يتحدى الغرب، أعلنت كلّ من بوركينا فاسو ومالي والنيجر، أول من أمس الاثنين، الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية، ومقرها لاهاي، واصفة المحكمة بأنها "أداة قمع نيو – استعمارية في أيدي الإمبريالية". وتنضم دول الساحل الأفريقي الثلاث، التي باتت تحكمها مجالس عسكرية انقلابية استولت على الحكم بين عامي 2020 و2023، إلى بوروندي، التي كانت أول دولة أفريقية تنسحب من الجنائية الدولية في عام 2017، كما تنضم إلى روسيا التي أصبح لها نفوذ قوي في البلدان الثلاثة بعد الانسحاب الفرنسي خصوصاً، والولايات المتحدة، والصين وإسرائيل وميانمار، وهي كلّها دول لم توقع على نظام روما الأساسي للمحكمة (الولايات المتحدة سحبت توقيعها على النظام الذي لم تصدّق عليه).
حكّام دول الساحل الأفريقي يخشون الملاحقة
وبينما ترفض دول كبرى، مثل الولايات المتحدة، الانضمام إلى "الجنائية الدولية"، بل حتى أن أميركا كانت قد أقرّت "قانون غزو لاهاي" في عام 2002 بهدف حماية أفراد الجيش في الخدمة من الملاحقة، خصوصاً بعد غزو أفغانستان، فيما ترفض أخرى الانضمام بذريعة التشكيك بمصداقيتها، يبدو انسحاب دول الساحل الأفريقي الثلاث، التي رفع حكّامها العسكريون الجدد منذ سيطرتهم على السلطة خلال الأعوام الماضية شعار "السيادة"، أقرب إلى استمرارهم في نهج الانعزالية السياسية والابتعاد عن الغرب منذ الانقلابات التي رفعت هذا الشعار، في وقت تدرك فيه كل من باماكو وواغادوغو ونيامي أن الغرب يعدّ عدته لمحاسبتها، لا سيما مع استمرار تفشي الفساد داخل هذه الدول والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وارتكاب جيوشها المجازر وعمليات القتل المتفلتة بذريعة ملاحقة التنظيمات المتطرفة التي تتخذ من منطقة الساحل معاقل لها، وذلك بدعم وتواطؤ من قوات المرتزقة الروس، الذين تحولوا من شركة فاغنر إلى "الفيلق الأفريقي". كما يخشى حكّام هذه الدول ملاحقتهم أيضاً مع استمرار عمليات النهب الواسعة لموارد البلاد من المعادن الثمينة، في وقت تعدّ فيه هذه الدول من الأقل نمواً في القارة السمراء، والأكثر فقراً.
تتعرض المحكمة في أفريقيا لانتقادات عدة وتشكيك بحيادها
وفي بيان مشترك، كشفت البلدان الثلاثة المتحالفة ضمن "تحالف دول الساحل" أن القرار اتخذ "بمفعول فوري" وهو يندرج في سياق نيتها "تكريس سيادتها بالكامل"، مضيفة أن "المحكمة أظهرت عجزها عن التعامل مع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة وجرائم العدوان المثبتة ومقاضاة" مرتكبيها. وأعربت الدول الثلاث عن نيتها اعتماد "آليات داخلية لتعزيز السلم والعدالة" وإنشاء محكمة جنائية للساحل الأفريقي قريباً. ولا يصبح انسحاب عضو من الجنائية الدولية ساري المفعول إلا بعد سنة من تقديم الطلب رسمياً إلى الأمين العام للأمم المتحدة.
أخبار
فرنسا تعلق تعاونها مع مالي وتطرد اثنين من دبلوماسييها
وقد تقرّبت بوركينا فاسو ومالي والنيجر من شركاء مثل روسيا، التي أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكّرة توقيف في حق رئيسها فلاديمير بوتين في مارس/ آذار 2023 على خلفية جرائم حرب مفترضة وترحيل أطفال أوكرانيين خلال الغزو الروسي لأوكرانيا. وتشهد دول الساحل الأفريقي الثلاث أعمال عنف بسبب الجماعات المتطرفة التي هي على صلة بتنظيمي القاعدة أو "داعش"، لكن جيوشها متهمة بارتكاب جرائم في حق المدنيين.
أعلنت الدول الثلاث عزمها على إنشاء محكمة جنائية للساحل
وتقضي مهمة "الجنائية الدولية" التي تأسّست عام 2002 بملاحقة مرتكبي الجرائم الأكثر خطورة في العالم، عندما تكون الدول غير عازمة أو غير قادرة على القيام بذلك. وتضم المحكمة 125 عضواً، وقد أمرت أخيراً باعتقال رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ووزير أمنه السابق يوآف غالانت بسبب العدوان على قطاع غزة. وفرضت الولايات المتحدة نتيجة ذلك عقوبات على قضاة في المحكمة، وتتجه إلى فرض عقوبات على المحكمة بأكملها، بحسب وكالة رويترز. وكانت المجر قد أعلنت في إبريل/ نيسان الماضي انسحابها من المحكمة بسبب مذكرة التوقيف بحق نتنياهو، الذي استقبله رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان في بودابست خلال الربيع الماضي.
انتقادات وتشكيك
وفي أفريقيا، تتعرض "الجنائية الدولية" لانتقادات عدة وتشكيك بحيادها. وكانت المحكمة قد حكمت على زعيم الحرب الكونغولي بوسكو نتاغاندا بالسجن 30 عاماً لجرائم حرب خصوصاً. وفرضت على القيادي الجهادي المالي الحسن آغ عبد العزيز السجن عشر سنوات للتهمة عينها. غير أنها قضت مثلاً بتبرئة الرئيس السابق لساحل العاج لوران غباغبو ومعاونه شارل بلي غودي ونائب الرئيس الكونغولي السابق جان بيار بيمبا. وفي 2016، أعلنت غامبيا وجنوب أفريقيا وبوروندي نيّتها الانسحاب من المحكمة، لكن البلدين الأولين عدلا عن قرارهما. وفي سبتمبر/ أيلول الحالي، وجّهت "الجنائية الدولية" للرئيس الفيليبيني السابق رودريغو دوتيرتي تهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، محمّلة إياه المسؤولية الجنائية عن عشرات عمليات القتل التي يُزعم أنها وقعت في إطار ما أطلق عليها اسم "حرب المخدرات"، والتي أسفرت عن مقتل آلاف من تجار المخدرات الصغار والمستخدمين دون محاكمة. وكان دوتيرتي قد اعتقل في مارس الماضي، ونُقل إلى مقر المحكمة في هولندا لمحاكمته.
وكانت بوركينا فاسو والنيجر ومالي قد استخدمت الذرائع ذاتها، السيادية ورفض الخضوع للغرب، لتبرير انسحابها من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، الذي دخل حيّز التنفيذ في يناير/ كانون الثاني 2025. ولم يكن الانسحاب من "إيكواس" قراراً اقتصادياً، رغم تقويضه الكثير من المكتسبات الاقتصادية في غرب أفريقيا، بل كان سياسياً بالدرجة الأولى، وعسكرياً، علماً أن دول "إيكواس" كانت قد أعلنت أنها تعتزم إنشاء قوة عسكرية مشتركة لمحاربة الإرهاب، لكن جيوشها امتنعت عن التدخل عسكرياً في دول الانقلابات الثلاث.
وتتهم جماعات حقوقية وخبراء أمميون قوات مالي وبوركينا فاسو المسلحة ومليشيات متحالفة معها بارتكاب جرائم حرب خلال عمليات ضد الجماعات المتطرفة، إلى جانب الفظائع التي ارتكبها المسلحون أنفسهم. وتؤكد السلطات في دول الساحل الأفريقي الثلاث أن تحقيقات جارية، إلا أنها لم تسفر حتى الآن عن نتائج معلنة. ويحكم مالي حالياً الجنرال آسيمي غويتا، رئيس المرحلة الانتقالية، والجنرال عبد الرحمن تياني في النيجر، والنقيب إبراهيم تراوري في بوركينا فاسو.