محمد عبده حبيب | ضرورة بيرام..

 تقول أسطورة محلية إن رجلا عمد إلى فحل غنمه فأسكته بعد ليالي من الإزعاج المتواصل، كان التيس يمارس دور الأب في الحظيرة، وحين ضاق رب الغنم بصوته، وأسكته، امتلأت الحظيرة بعشرات التيوس الصغيرة، التي كانت صامتة خوفا أو حياء، أو استشعارا لحرج الضعف في المنافسة. وجد صاحب الغنم نفسه في وضع حرج؛ فمصدر الإزعاج الواحد تحول إلى عشرات، يستحيل إسكاتها، ولم تعد العودة إلى الوضع السابق ممكنة. المعضلة أن النتاج الذي كان يرجى من إزعاج التيس الأكبر، تبخر مع باقة المزعجين الجدد، فإزعاجهم من غير ثمار!!.

من يفكرون في إسكات النائب برام الداه اعبيد بطرق تقليدية، إنما يخططون لإخراج جوقة من البرامات، يستحيل ضبط إيقاعها، كما لا فائدة ترجى من استمرار صراخها.

تقول النظرية التي يتقدم بها مروجو طرح إسكات برام بأن منحه التزكية للترشح كان خطأ، وأنه لا فائدة ترجى من ترشيحه، ويسوقون أدلة على ذلك أنه ظهر أقوى منه في العام ٢٠١٩، وأنه أظهر تطرفا أكثر تجاه من منحوه السُّلَّم إلى أكتاف ناخبيه، بالتزكية من طرف عمد ومستشارين ما كانوا ليمنحوه التزكية من تلقاء أنفسهم.
يغفل هؤلاء عن جملة من الحقائق:
1.    التزكية لم تزد شعبية برام، ولا كانت سببا في إقبال الناخبين عليه، شعبية برام ذاتية متأتية من خطابه الذي يستخدم، وهي ليست حكرا على موريتانيا، فالخطاب الشعبوي الذي يستخدمه يجلب الأنصار في مختلف بقاع العالم.
2.    والشريحة التي يرفع برام الصوت بمظالمها التاريخية ليست من نسج الخيال، بل هي شريحة اجتماعية موجودة، وما يحكيه برام حقائق تحدث عنها كل المرشحين، بطرق مختلفة، لكن برام كان أصرح، وأقدر على مناغاة هواجس وأحاسيس أجيال من هذه الشريحة، وأكثر تناغما مع عواطف شبابها على وجه التحديد، ولذلك صوتوا له، واندمجوا في حملته، لأنهم وجدوا في خطابه بعض ما يمثلهم، ويحلمون به، باختصار؛ عبر عنهم، فاتبعوه.
3.    أين كان هؤلاء سيكونون لو لم يترشح برام؟ من يظن أنهم كانوا سيتجهون للمرشح المتزن العيد ولد محمدن، أو أي مرشح ينتمي لشريحة أخرى، لا يقرؤون شيئا من واقع هؤلاء، ولم يقيسوا بشكل جدي المسافة بين الخطابات. كان هؤلاء سيناصرون برام، وهو خارج السباق مكلوما يضاعف شحنة الغضب في نفوسهم، يساعده عليهم القنوط من أي أمل في سماع أصواتهم عبر صناديق الاقتراع، أو أي وسيلة من الوسائل المنطقية، والمسالمة لإيصال الصوت. كان ترشيح برام بالنسبة لهؤلاء أملا تعلقوا به، وصرفوا فيه طاقاتهم، وانشغلوا بالحركة والعمل من أجله، طيلة العام تقريبا، ووصل التحرك أوجه في الأشهر الثلاثة التي سبقت الحملة وصولا إلى يوم الاقتراع.
4.    لو لم يترشح برام، ولم يجدوا أملا، ولو لم يجدوا مصارف لجهودهم، وأحلامهم، وعواطفهم طيلة هذه الأشهر، لكانوا فرغوها في الشارع، ولكانوا سعوا إلى إسماع أصواتهم في الطرقات، وحدثني بعد ذلك عن سكينة، وعن حملة، وعن يوم اقتراع!.
5.    لقد استنفرت الدولة، وقطعت الإنترنت، وعبأت كل وسائلها، بسبب خروج بضع مئات من الشباب الغاضب، المتعب بعد أسابيع من مواصلة الليل بالنهار في التعبئة، وبعد أن أرضت الجماهير ضمائرها بالتصويت لخيارها، فماذا لو كانت المعبؤون مائتا ألف الذين صوتوا لبرام، ما ذا لو كان عشرهم خرج في العاصمة نواكشوط، ونواذيبو؟ ما ذا لو كان ذلك قبل الاقتراع، وأيام الحملات؟
6.    لعل هذا المستوى من التحليل يكون بعيدا على أفهام من يديرون الأمور بالأمنيات! فلننزل إلى مستوى أقرب. من الذي أعطى الحيوية والمصداقية لعملية الاقتراع نفسها، ومنح الحملة نكهة المنافسة الجدية؟ من الذي أشعر حملة المرشح محمد ولد الشيخ الغزواني، وأركان نظامه بالتحدي؟ إن هذا التحدي ليس مجرد حافز للعمل، بل هو عنوان مصداقية العملية برمتها، وهو الذي أخرج الانتخابات من أن تكون انتخابات على المقاس.
7.    وصلت نسبة المشاركة مع ترشح برام إلى ٥٦٪ لو نزعنا نسبة برام ٢٢٪ ستكون ٣٤٪ فإذا قلنا إن المقاطعة لن تنجح وسيشارك نصف من شاركوا، وسيصوتون، مع استبعاد هذه الفرضية، فإن هذا كان سيضعف المشاركة إلى أقل من خمسين بالمائة، وكان الرئيس غزواني سيفوز بنسبة أكثر من ٧٠٪، على اعتبار أن كتلته لن تتأثر سلبا من غياب برام. أليس النجاح بنسبة مرتفعة في حد ذاته واحدا من المطاعن في مصداقية الانتخابات في الديمقراطيات الناشئة؟!
8.    حاول برام أن يجعل من الانتخابات أزمة سياسية ولم ينجح، لأنه أولا منح حق المشاركة، ولأنه ثانيا، منح حق المنافسة، ولأنه ثالثا حصل على أصوات مؤيديه كاملة. ولو لم يكن قد شارك لكانت الأزمة السياسية نادت على نفسها، ولتربع برام على عرش دعواه وكل أسباب الأزمة مشاهدة منظورة للعموم.
9.    من يُنَظرون لإغلاق السور دون برام وأضرابه، ربما لم يعودوا يتذكرون أيام كان فاتح مايو يوما داميا في العاصمة نواكشوط، ونواذيبو والزويرات، لأن الكونفدرالية الحرة لعمال موريتانيا لم تكن مرخصة، ولم تكن مسيراتها تحظى بالشرعية. وكانت تفتتح كل صباح الأول من مايو مواجهات دامية مع الشرطة. حتى تسلم الساموري ولد بي ذات فجر وصلا بترخيص الكونفدرالية والمسيرات، فأصبحت الشغيلة بمختلف أطيافها تجوب شوارع العاصمة كل يوم عيد عمال في جو احتفالي أشبه ما يكون بأجواء الأعياد الوطنية الكبرى.
10.    لم يختلف شيء سوى زاوية النظر إلى العمال ومطالبهم، والتقييم السياسي لحركة الحر، الذي بدأ في القبول بها كجزء من الحل، وليست بالضرورة جزءا من المشكل. وهذا ما نحتاجه في التعامل مع ظاهرة برام؛ النظر إليه باعتباره جزءا من الحلول التي تحتاجها موريتانيا، لأنه يمثل شريحة من الناخبين صوتوا له، وأعطوه تفويضا باسمهم.
11.    يدرك برام في قرارة نفسه أن الموريتانيين لم ينتخبوه رئيسا، وأنه لم يفقد صوتا واحدا أدلي به لصالحه في صناديق الاقتراع، ولكنه يحتاج إلى الصراخ ليلتفت إليه، وقد قالها صراحة في واحدة من غفلاته الغاضبة، حين صرخ: "من يبحث عن المعارضة هذه هي المعارضة". حين ينال برام الأعراف الذي يطلب، والذي هو حق الموريتانيين الذين صوتوا له، فلن يجد مهربا من التعامل مع حقائق الواقع، وحين يتغافل عن الحقائق أو يحاول التلاعب بها، فأول من سينفض عنه هم الناخبون الذين منحوه ثقتهم. وهو من العقل بحيث لن يفضل عليهم مجموعة متطرفين، يحتمون به، وحاجتهم إليه أكبر من حاجته إليهم. فإن أبى إلا مغالبة الحقائق، والارتماء في أحضان المتطرفين، فسيكون التعامل معه بالقسوة منطقيا، ومتاحا، وشرعيا.
12.    ازدادت نسبة المصوتين للرئيس غزواني في نواكشوط، ونواذيبو والزويرات، وفي مناطق الترارزه التي أعطت أغلبية لبرام عام ٢٠١٩، هذا إلى جانب نمو شعبية برام، وهو ما يعنى أن الخوف من اكتساح برام ليس في محله.
حين استثمر الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني بعض نقاط القوة لديه، في آخر أيام الحملة تحسنت نسبة الإقبال عليه في العاصمة، ولو كان العمل جرى بنفس الوتيرة من بداية الحملة لكانت النتائج في العاصمة نواكشوط مفاجأة من العيار الثقيل. غزواني أول رئيس حاكم ترتفع شعبيته في العاصمة، معقل المعارضة التاريخية، ويعود ذلك بطبيعة الحالة إلى جملة عوامل من أهمها، نزول ذوي الخبرة في العاصمة في أيام الحملة الأخيرة.

كان ترشيح برام ضرورة لمصداقية الانتخابات، وحيوية الحملة، ونسبة المشاركة فيها، ويعتبر التعامل معه باعتباره جزءا من الحل، واحدا من مفاتيح الاستقرار وتنمية المسار الديمقراطي في المستقبل المنظور.