لقد مرت ثلاثة أشهر منذ تكليفي بمهمة إدارة الوكالة الوطنية للتشغيل، في سياق وطني خاص؛ يتسم بوجود فرص عديدة من بينها الآفاق الاقتصادية الواعدة والتوجه الرئاسي نحو تطوير القطاعات الإنتاجية وتحسين وتنويع مخرجات التعليم العالي وإعطاء أولوية كبرى للاستثمار وللقطاع الخاص واهتمام كبير بالتنمية المحلية. سياق تطبعه كذلك مخلفات الأزمة الصحية والاقتصادية الكبرى التي تسببت فيها جائحة كوفيد-19 وما أعقب ذلك من أزمات دولية وإقليمية أثرت سلباً على اقتصادات مختلف دول العالم.
تفرض هذه المتغيرات الكبرى؛ تحولا في طريقة عمل وكالتنا كي تلعب الدور المنتظر منها في مجال ترقية التشغيل وقابلية التشغيل والتشغيل الذاتي ورصد سوق العمل ولكي تأخذ موقعها كفاعل مركزي لا يمكن الاستغناء عنه في سبيل الدمج الاقتصادي لكل فئات المواطنين وفي مختلف مناطق الوطن، بعد أن أكملت هذا العام 19 سنة وراكمت الكثير من التجربة واستطاعت نسج العديد من العلاقات الهامة وكسب ثقة الشركاء الفنيين والماليين، وتمت إعادة تنظيمها وتغيير تسميتها وتوسيع مهامها عام 2021 وأصبحت تمتلك نظام معلومات مطابق لمعايير الجودة العالمية وافتتحت 22 وكالة محلية في كافة أنحاء البلاد وتتلقى منذ عام 2023 دعما مهما من الصندوق الوطني للتشغيل الذي أنشأه فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني.
لقد باشرتُ بجد منذ اللحظة الأولى وضع خطة عمل طموحة تنطلق من المكتسبات والتجارب السابقة للوكالة، مع العمل على خلق مسارات جديدة ووضع الأسس لتحول واسع على المدييْن المتوسط والطويل؛ انطلاقا من التوجيهات السامية لفخامة رئيس الجمهورية في مجال التشغيل وانسجاما مع الاستراتيجية الوطنية للتشغيل التي تعمل وزارة التشغيل والتكوين المهني على تنفيذها، واستجابة لتطلعات الشباب ومختلف المواطنين الباحثين عن عمل لائق. ومن شأن تجسيد هذه الخطة التي صادق عليها مجلس الإدارة الأسبوع الماضي؛ أن تعزز دور الوكالة كمرفق عمومي حيوي يعنى بتنفيذ سياسات الدولة في مجال التشغيل، وهي تستند على رؤية جديدة تؤمن بالابتكار وترتكز على محاور رئيسية كبرى، سنستعرضها بإيجاز في هذا المقال.
شفافية سوق العمل .. رهان إظهار السوق المخفي والنشر المكثف للعروض
إن سوق العمل يحتاج كأي سوق؛ إلى خلق فضاء يجتمع فيه العرض والطلب، وهي المهمة التي أرى أنها المسؤولية الأساسية للوكالة؛ حيث يجب أن تكون بورصة للتداول حول الشغل وفضاءً يلتقي فيه المشغلون والباحثون عن العمل، في إطار من الشفافية يقتصر فيه دور الوكالة على مواكبة المشغلين في صياغة عروضهم وفي عملية الاختيار وذلك بشكل مجاني وشفاف وبناء على طلب مسبق منهم.
إذا استثنينا المسابقات الحكومية وعروض المؤسسات الدولية والمشاريع الممولة من طرفها، فلا تكاد توجد في موريتانيا أي إعلانات عن فرص العمل المتوفرة، ولذا سنعمل على كشف نسبة معتبرة من الفرص التي يتيحها ما يعرف بالسوق المخفي وعلى ضمان النشر المكثف لمختلف عروض الشغل من خلال عدة أنشطة، من أهمها:
القيام بعمل تحسيسي وتوعوي مكثف يستهدف طرفي سوق الشغل لجعل الوكالة الوجهة المرجعية للمشغلين من القطاع الخاص ولمختلف فئات الباحثين عن الشغل؛
إنشاء دليل مرجعي للمهن والكفاءات يوحد المفاهيم لدى كافة المتدخلين ويجعلهم "يتحدثون نفس اللغة"؛
مواكبة المستثمرين من خلال تصميم عرض خدمات خاص لمساعدتهم في تحقيق التزاماتهم المتعلقة بخلق فرص العمل. سيضمن هذا العرض نشر عروض العمل أمام الباحثين عن العمل ووصول المستثمرين للكفاءات المطلوبة وتوقيع اتفاقيات مشتركة للتكوين في المجالات التي لا تتوفر في سوق العرض وتوفير معطيات دقيقة للحكومة حول مساهمة الاستثمار في مجال التشغيل؛
مواكبة المؤسسات المكلفة بتنفيذ مشاريع الدولة لمساعدتها في الوفاء بالشروط المنصوصة في دفاتر الالتزامات من حيث خلق فرص العمل؛
إنشاء فضاء خاص بمرتنة الوظائف طبقا لمقتضيات القانون وبالتنسيق مع القطاع الوصي، بما يسمح للمشغلين بنشر العروض الموجهة للكفاءات المحلية ويمَكن الكفاءات الموريتانية في الداخل والخارج من الاطلاع على الفرص والوصول إليها؛
توقيع اتفاقيات مع الفاعلين الخصوصيين في مجال التشغيل تسمح بالتجميع والنشر المتعدد لعروض العمل.
تطوير خدمات الوكالة وبرامج النهوض بالتشغيل
حتمية التحول تفرض تطوير البرامج وعروض الخدمات التي تقدمها الوكالة لتعود بالأثر الدائم على المستفيدين وليكون بالإمكان تقديم مؤشرات عن النتائج وعدد الوظائف التي ساهمت الوكالة في الحصول عليها.
ستربط الوكالة صلات بمختلف أصحاب المصلحة، وسيتم استحداث برامج تدريب جديدة تستجيب للطلبات المعبر عنها من طرف المؤسسات وتمكنهم من الحصول على الكفاءات المطلوبة، كما سيتم تطوير عرض التكوين ليتلاءم مع المجالات المطلوبة في السوق وليضمن الدمج للمستفيدين منه.
ستكون ريادة الأعمال محورا أساسيا ضمن الخطة السنوية الجديدة، من خلال الاستفادة من التجارب الدولية في مجال مواكبة رواد الأعمال وأصحاب المشاريع واختيار وتمويل ومتابعة الأكثر قدرة على النجاح، بهدف خلق جيل من الرواد من حاملي الأفكار الإبداعية وأصحاب الشركات الناشئة كي يكونوا نماذج يقتدى بهم ويساهمون في تقديم الحلول وخلق فرص العمل.
ستعمل الوكالة على توفير بنك من الأفكار الصالحة للتنفيذ وإنجاز دراسات حول الشُّعَب الإنتاجية وسلاسل القيم المناسبة لتطوير ريادة الأعمال في مختلف الولايات. سيتم إطلاق حزمة من برامج المقاولات منها: برنامج "نماذج" وبرنامج "ريادة الأعمال المحلية" وبرنامج "ريادة الأعمال النسائية" وبرنامج "ريادة الأعمال لذوي الاحتياجات الخاصة".
كما ستعمل الوكالة على استكشاف عروض العمل على المستوى الدولي عن طريق الاستفادة من تجارب الوكالات النظيرة والعمل على إطلاق أول تجربة نموذجية في مجال الهجرة الدائرية.
توسيع قاعدة المستفيدين واستهداف فئات جديدة
إن توسيع مهام الوكالة وزيادة تغطيتها الجغرافية، يفرض تصميم استجابة مناسبة لمختلف الفئات المستهدفة؛ فبالإضافة للتكفل بالفئات التقليدية من حملة الشهادات العليا والتكوين المهني وغير المؤهلين، حدد المرسوم الجديد ضمن مهام الوكالة تطوير قابلية تشغيل النساء وتطوير العمل المحلي وتطوير دمج ذوي الاحتياجات الخاصة ومواكبة المرشحين للهجرة والمهاجرين العائدين.
وقد رأيت ضروريا العمل على فئات أخرى؛ خاصة خريجي المحاظر لمواكبتهم وتهيئتهم للولوج إلى سوق العمل الدولي والوطني، وكذا أصحاب الكفاءات العالية القادرين على الاستفادة من الفرص التي توفرها الشركات الكبرى ومشاريع الاستثمار.
ستولي الوكالة اهتماما خاصا كذلك لفئة NEET الذين لا يتلقون تعليما وليسوا في وضعية تدريب ولا يزاولون عملا والذين يشكلون نسبة معتبرة من العاطلين عن العمل في موريتانيا.
ولضمان تقريب خدماتها بأقل تكلفة، ومن أجل الوصول للشباب في مختلف مناطق الوطن ستقوم الوكالة هذا العام بطرح نموذج وكالة متنقلة واقتناء أول وحدة متنقلة نموذجية للتشغيل على أن تعمل مع شركائها لتوفير وحدة متنقلة في كل ولاية.
تنويع الشراكات وخلق بيئة محفزة للتشغيل
إن إحدى إشكاليات التشغيل تتمثل في أنه يتسم بالأفقية واتساع قاعدة المستهدفين؛ ولذا فهو يتطلب تضافر جهود العديد من المؤسسات العاملة في مجالات الاقتصاد والتعليم والعمل الاجتماعي ومكافحة الإقصاء والتنمية المحلية. ولكي تتمكن الوكالة من تلبية انتظارات أكبر عدد من الباحثين عن العمل، سيكون لزاما عليها بالتنسيق مع القطاع الوصي، عقد شراكات مع مختلف هذه المؤسسات ومع المؤسسات الجامعية ومعاهد التكوين وأرباب العمل والمؤسسات المصرفية، والمستثمرين والمنتخبين والشركاء الفنيين والماليين.
ولتساهم الوكالة في خلق بيئة محفزة للتشغيل، بصفتها الذراع التنفيذي للسياسات الحكومية في مجال التشغيل، ستعمل على اقتراح إجراءات حكومية ومراجعة بعض القوانين والقيام بإحصاءات واستبيانات لتوفير المعلومات الأساسية حول سوق العمل.
ستعمل الوكالة في هذا المضمار على إجراء دراسة وتقديم مقترح للحكومة حول الإجراءات المحفزة للتشغيل، بما يتلاءم مع وضعية وخصوصية البلد؛ مثل تشجيع عقود التشغيل المعفاة أو المدعومة واتخاذ إجراءات لتطوير التحفيزات التي تقدم في إطار برامج التدريب لاعتماد عقود تدريب تنتهي بالتشغيل تشارك في تنفيذها الوكالة والشركات ومراكز التكوين. كما سيتم العمل مع الأطراف المعنية لتطوير بيئة مناسبة لريادة الأعمال والمشاركة في اقتراح القوانين والآليات التي تضمن ذلك.
سيتم تنظيم استبيانات حول الحاجيات المستقبلية من اليد العاملة، لتوفير معلومات دقيقة عن سوق العمل تساعد الجامعات ومعاهد التكوين وتوجه طالبي العمل حول التخصصات والتكوينات المطلوبة، كما سيتم إعداد ونشر دوريات حول واقع سوق العمل.
الرقمنة والاتصال .. أدوات الوصول والتغيير
يشكل الاتصال رافعة أساسية في مجال التشغيل لقدرته على تغيير العقليات والوصول لجمهور عريض؛ وتشكل الرقمنة مجالا واسعا للابتكار والتطوير؛ ولذا ستخصص خطة العمل مساحة معتبرة لمحور الاتصال والرقمنة والاستفادة مما تتيحه الأدوات الرقمية ووسائل الاتصال من ميزات مهمة لتسهيل الإجراءات، وتقريب الخدمات من المستفيدين وإتاحة الفرصة لمستشاري التشغيل كي يتفرغوا لمواكبة الأشخاص والمؤسسات الأكثر حاجة.
وفي هذا السياق؛ سنعمل على تطوير البوابة الرقمية للوكالة وتطوير وإنشاء منصات إلكترونية جديدة على الشبكات الاجتماعية (فيسبوك، تيك توك، لينكد إن…) وإدراج دليل مرجعي للمهن والكفاءات وإنشاء لوحات قيادة مرقمنة من أجل إدارة أمثل لمصالح الوكالة ومتابعة الأداء بشكل آني وتقييم مختلف الأنشطة بصورة دقيقة.
ولأن مهام الوكالة؛ تتداخل مع مؤسسات أخرى، سنسعى لتأمين الربط مع واجهات نظم المعلومات لدى الشركاء الحاليين والمحتملين من أجل التحقق من المعطيات (الحالة المدنية، صندوق التأمين الصحي، صندوق الضمان الاجتماعي، الوظيفة العمومية، الجامعات، معاهد التكوين المهني...).
وفي الشق الاتصالي من هذه الخطة؛ سيتم تنويع قنوات الاتصال عبر استخدام قنوات سريعة وأكثر انتشارا مثل الرسائل النصية وتطبيق المراسلات الفورية واتساب واستحداث أرقام خضراء.
كما سيتم تنظيم حملات اتصالية متعددة بغرض الوصول لجمهور عريض، سواء تعلق الأمر بالحملات الاتصالية المصاحبة للبرامج أو تلك التي تستهدف خلق وعي لدى الرأي العام بأدوار الوكالة وحشد التعبئة لقضية التشغيل في مفهومه الأشمل.
نداء التشغيل .. دعوة مفتوحة
ستكون نهاية السنة فرصة لتقييم هذه الخطة وإعداد خطة استراتيجية ثلاثية نفكر في عرضها ضمن أيام تشاورية بمناسبة مرور عشرين سنة على تأسيس الوكالة تجمع مختلف أصحاب المصلحة ونتمنى أن ننجح من خلال هذه الخطة السنوية في وضع لبنة أساسية لعمل منظم وفعال يقنع الجميع بالقدرة على تحقيق قفزة نوعية في مجال النهوض بالتشغيل.
يحدوني أمل كبير في المساهمة في كتابة فصل من تاريخ التشغيل في بلدنا العزيز؛ ومن هذا المنطلق أوجه دعوة لكافة عمال وموظفي الوكالة، من أجل العمل بروح فريق واحد للمساهمة كل من موقعه في تجسيد رؤيتنا الطموحة لإحداث نقلة نوعية في مسار الوكالة. كما أطالب الشركاء الفنيين والماليين بمواكبتنا في تنفيذ خطة العمل وتقديم الدعم الضروي للوكالة في مهمتها الحساسة. وهي فرصة كذلك لأتوجه للجمهور العريض من الرأي العام الوطني، كي يواكب جهود التطوير التي نطلقها، بالنقد البناء والمقترحات والملاحظات والتوجيه الذي سيرفع لا محالة من أداء الوكالة، ولهذا الغرض؛ أضع تحت تصرفهم البريد الإلكتروني المرفق أسفل النص.
عبد الفتاح عبد الفتاح - المدير العام للوكالة الوطنية للتشغيل