لماذا تزعج استقلالية قرار غزواني بعض المحسوبين عليه؟/ لارباس عبد المجيد

يمكن القول دون مجازفة إن أبرز سمات نهج الرئيس غزواني في الحكم وأهم مرتكزات تسييره للشأن العام تتمثل في استقلالية الرأي والقرار إزاء من يعتبرون أنفسهم "صناع راي" أو "مراكز قوى". 
تبدو هذه السمة ظاهرة في القناعات التي يعبر عنها الرجل وفي ممارساته اليومية للسلطة؛ في توجهاته العامة، وفي برامجه الاستراتيجية، وفي المواقف والقرارات التي يتخذها؛ في صلته بمختلف مكونات المشهد السياسي والاجتماعي والإعلامي الوطني، وفي علاقاته بشركاء البلد ومواقفه من القضايا الإقليمية والدولية.
كان خطاب فاتح مارس 2019 مفاجأة لكثيرين، فقد جمع بين وضوح الرؤية ولطف العبارة، بين قوة الموقف وهدوء النبرة، بين دقة التشخيص وحصافة الرأي، بين منطق التفهم ومقتضيات المسؤولية. وفي الواقع، بدا ذلك الخطاب "نشازا" في سياق اتسم بصراع حدي تجاوز الخشونة اللفظية ليتدحرج أحيانا إلى حافة القمع المادي والمواجهة. وكان التصور الحاصل لدى كثيرين – نخبا سياسية ومجتمعية فضلا عن عموم الشعب – أن الرئيس غزواني سيكون مجرد تابع أو خليفة يجلس شكليا على كرسي الحكم لفترة محدودة قبل أن يعيده لصاحبه. وعلى نحو ما، سعى بعضهم لجعل سيناريو بوتين –  مدفيدف" حاضرا في الأذهان.
لم يتأخر الرئيس السابق ولد عبد العزيز في فهم ما يعنيه أن الرئيس – المترشح، حينها، حرص أن يعبر عن موقف منصف من الجميع بقدر ما تجنب أن يمنح تزكية مطلقة لأي كان؛ ولذلك استشاط غضبا على الفور ثم حاول بمكر وإصرار أن يعرقل المسار الذي انطلق للتو؛ وحين أعجزته الحيل تخلى عن كل الأقنعة، وقد تخيل نفسه بقوة شمشون فحاول أن يزلزل أركان البناء، على طريقة "علي وعلى أعدائي". لكن بما أنه كان العدو الأول لنفسه لم يضر في النهاية إلا نفسه. بالمقابل، يبدو أنه كان هناك داخل الموالاة الوظيفية التقليدية وبعض زوائدها الطفيلية من لم يفهم شيئا في البداية، وحين بدأ يستوعب الحقائق الجديدة لم يتعظ بخيبة مسعى من سبقه فشرع في المحاولة من جديد وإن بطريقة مختلفة. 
فور استلامه السلطة، فاتح أغسطس 2019، باشر الرئيس غزواني تجسيد استقلاليته في الرؤية والتوجه والقرار، واضعا نصب عينيه ما تقتضيه مصلحة البلد من إرساء قواعد دولة القانون، وبناء نموذج للحكامة قائم على الشراكة والتشاور، وترسيخ نمط في التعامل بين الفرقاء السياسيين قوامه الاحترام والبحث عن المساحات المشتركة والاختلاف بالتي هي أحسن.  وهكذا بات القصر الرئاسي قبلة للسياسيين وقادة الرأي من مختلف المشارب، حيث يجد الجميع ما يسعهم من الود وحسن الإصغاء والتعاطي الإيجابي، دون ضغائن ولا أحكام مسبقة ولا حسابات ضيقة، فالعلاقة مع المعارضة قائمة على الشراكة في حمل الهم الوطني الجامع، وعلى التنافس بشرف، والاختلاف في إطار الأخوة، والتعامل بمنطق العدل؛ لا على الشقاق والقطيعة والمزايدة. 
في هذا السياق، الذي ميزته قناعة راسخة بأن خدمة الوطن متاحة بالشراكة أكثر منها بالصراع والمواجهة، احتفى الرئيس غزواني بالزعامات التقليدية للمعارضة – رغم اختلاف الرؤية والمواقف أصلا – وأولاها ما تستحق من تقدير وعناية لينتهي المطاف باثنين من رموزها التاريخية (أحمد ولد داداه ومسعود ولد بلخير) في صف داعمي الرئيس؛ كما حاور بيرام الداه اعبيد حتى أثنى عليه في أكثر من مناسبة، وأعلن للملأ أنه وجد صديقه الذي كان يبحث عنه؛ وبنفس النهج اجتذب الرئيس قادة تواصل وتوطدت علاقته بكثير منهم والتحقت مجموعة وازنة من قيادات الحزب ذات المكانة التاريخية والوزن السياسي بصف الداعمين لمشروع الرئيس. 
في ذات الوقت، تعامل الرئيس غزواني مع مختلف مكونات موالاته وفق اعتبارات موضوعية، أساسها أحكام القانون والضوابط المؤسسية، مستندا على مبدأ "لا عداوة مع شخص لذاته، ولا صداقة على حساب احترام القانون وأداء الأمانة". وهو ما التزم به الرئيس منذ توليه السلطة، وتجلى بشكل واضح في تعامله مع صديقه وسلفه الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز ومع عدد من أركان الحكم وطواقم حملته الانتخابية لسنة 2019 حين أقال هؤلاء دفعة واحدة عندما اقتضى وضعهم القانوني ذلك، مؤكدا في الآن ذاته أنه سيعيد الاعتبار لمن يثبت منهم براءته أمام القضاء، وكان عند كلمته والتزامه.
    لقد استوعبت معظم قيادات الأغلبية الرئاسية وعموم داعمي الرئيس هذا التوجه وتفاعلوا معه إيجابا، حتى في حالات بدا فيها لوهلة أن الأمور قد لا تسير على ذلك النحو، مثلما هو في حالة مجموعة من قيادات الأغلبية تصدرت حملة الرئيس سنة 2019، وكانت من أقرب الناس إليه، ودعمته بكل قوة وتفان، لكن تم تغييبهم عن الواجهة خلال السنوات الأولى من حكم الرئيس بل إن بعضهم وجد نفسه في مواقف صعبة بسبب قاعدة التعامل التي سبق ذكرها؛ ومع ذلك برهنوا دائما على تفهم الإجراءات المتبعة، والثقة بسلامة موقفهم، ووفائهم للنظام الذي اختاروا دعمه.
هكذا ظل سيدي محمد ولد محم، على سبيل المثال، جاهزا للمنافحة بفعالية عن النظام عبر كل المنابر التقليدية والمستحدثة، وكان في طليعة من تولوا تفنيد مزاعم الرئيس السابق ومحاولاته مغالطة الرأي العام؛ كما واصل قادة آخرون جهودهم السياسية والتعبوية، متعالين على الخلافات الشخصية ومتجاهلين الضغائن الصغيرة، مقدمين خبراتهم السياسية ومهاراتهم الإدارية التي ظهرت ثمارها جلية في النتائج غير المسبوقة التي أحرزها الحزب الحاكم في الانتخابات التشريعية والجهوية والبلدية 2023، خصوصا في العاصمة نواكشوط.
وعلى هذا النهج سارت نفس القيادات في علاقتها بمختلف مكونات الأغلبية، متخذة من خدمة النظام هدفها ومن توجهاته بوصلتها، بغض النظر عن موقعها في المنظومة وامتيازات أفرادها، حيث لم يصدر عن أفرادها – رغم ابتهاج الآخرين بإقصائهم وتهميشهم – أي تصرف من شأنه أن يضر بالنظام أو يشكك في شرعية الإجراءات التي تستهدفهم، ثقة منهم في أنفسهم وفي القضاء وفي منظومة الحكم بشكل عام.
في مقابل هؤلاء برزت داخل الموالاة الرئاسية شخصيات سياسية وإدارية مرموقة بدت منزعجة من استقلالية وتوازن اختيارات رئيس الجمهورية، حريصة على التشويش على توجهاته وسياساته. ورغم هيمنة هذه المجموعة وحلفائها طيلة المأمورية الأولى وحضورها المعتبر الآن في واجهة المرحلة الحالية، لم تتوقف قط عن استهداف أطراف في الأغلبية والسعي إلى الإضرار بها، حتى باستغلال الوسائل العمومية ضدها، ولو أدى ذلك إلى الإضرار بمصالح النظام كله. 
في الواقع، يبدو كما لو أن هناك مجموعة داخل الموالاة الداعمة للرئيس ترى أن من واجبه أن يضعها حيث تريد، ويمنحها ما تشاء، وأن يضع من تعتبرهم خصومها حيث تريد هي أن تراهم؛ ولطالما اعتبرت ما تحصل عليه من نفوذ وامتيازات "حقوقا معلومة" لها على النظام وعلى البلد، لا يقابلها أي التزام تجاه النظام الذي تحسب عليه، ولا أي مسؤوليات تجاه الوطن الذي ينبغي أن تكون مصالحه في الاستقرار السياسي والانسجام الاجتماعي والنمو الاقتصادي فوق كل اعتبار.
ومن أمثلة من يسيرون على هذا النهج حمود ولد امحمد، الذي انتقل من رئاسة الهابا إلى إدارة وكالة معادن موريتانيا في بدايات تأسيسها، إلى مندوبية "تآزر"، ومع ذلك لم يبرح مربع الصراعات والمناكفات، شأنه في ذلك شأن آخرين، ظلوا "عالقين" ذهنيا في فترة ما قبل 2019، ولم يستطيعوا أن يضعوا حدا لشغفهم بمعارك عبثية ضد من لا يعجبهم، حتى لو كان من شأن مناوراتهم تلك أن تلحق الضرر بمصالح النظام الحيوية.
من المؤسف أن كثيرين يربطون اليوم بين مجموعة محددة داخل الأغلبية لديها هذه النظرة، التي اشتهرت بها منذ عقود، وبين حملات منسقة ومنظمة بعناية، تستخدم فيها حسابات وهمية وأسماء مستعارة وتستعين بخدمات نشطاء غوغائيين على وسائل التواصل الاجتماعي، لترويج معلومات مختلقة أو متلاعب بها في مسعى لترسيخ صورة سلبية عن حكم الرئيس، لا لشيء إلا لأنه اختار نهجا في الحكم قائما على استقلالية الرأي والقرار، على الهدوء والتشاور، وعلى التبصر والحكمة، يمنح كل موريتاني فرصة الإسهام في بناء وطنه، ويحرص على الاستفادة من كل القدرات والكفاءات كل بحسب طاقته واستعداده، وأنه لم يرتهن في قراراته لرغبات وحسابات هذا الطرف أو ذاك ضمن الموالاة. 
القاسم المشترك بين أعضاء هذه المجموعة – وآخرين من دونهم – هو العجز عن تقبل التحديث والانتقال من نظام وأسلوب متقادم ومتجاوز قائم على الصراع والمكائد والضرب تحت الحزام إلى نظام قائم على التعاطي الإيجابي، والتنافس بشرف، والانسجام ضمن المشروع الواحد. لقد اعتادوا لسنوات، أو حتى عقود، على المناورات والمؤامرات، وباتوا غير قادرين على إدراك أن الزمن تجاوز تلك الأساليب وأن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله. 
لقد آن الأوان ليراجع هؤلاء أنفسهم وينتقلوا، بسلاسة وهدوء، إلى موريتانيا ما بعد 2019؛ موريتانيا كما تصورها وخطط لها الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، ويفهموا أن الرئيس هو من يملك قراره، وهو من يختار معاونيه، وأنه يقف على مسافة واحدة من جميع داعميه، ولا يخضع للابتزاز، وأن البلد يحتاج، ويستحق على كل أبنائه، أن يوجهوا كل جهدهم نحو ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، وأن التحديات التي يواجهها البلد والرهانات التي رفعتها قيادته لم تعد تسمح بتضييع الوقت في معارك بائسة وصراعات عبثية. ومن لا يمكنه أن يفهم هذه الحقائق، أو لا يسعه أن يتقبلها، عليه أن يوفر وقته وجهده لأنه لن يوقف المسيرة ولن يغير مسار التاريخ.