ماديا تشكل الجسور معابر لا غنى عنها فوق الأنهار، وفي مناطق الزحام الشديد. في مداخل المدن الحديثة لا غنى عن الجسور، وعلى الأنهار الفاصلة بين المدن، أو الحادة بين الدول لا بد من جسور.
الدلالة الرمزية للجسور أبعد بكثير من دورها المادي؛ فالجسور هي معابر الانتقال الآمنة، وقلما يوجد جسر إلا يربط بين عالمين مختلفين، أو بين أخوين فرقتهما الجغرافيا، أو متنفس من مختنق فرضته الحياة اليومية على الجيرة.
بلادنا بكاملها جسر بين أخوي العروبة وإفريقيا، لكن تجسيد هذا المفهوم الراسخ وجدانيا، الماثل واقعا تأخر إلى مجيء الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، فحولته إرادته للبنيان والتواصل والتعمير، من بعد رمزي يدور النقاش؛ هل هو همزة وصل محذوفة في درج الكلام، زائدة في رسم الكلمات غير مؤثرة حضورا وغيابا؟ مع ما يعني ذلك من اهتضام للمكانة، وانتقاص من المقام.
أم هي "صلة موصول" لا تقوم بذاتها، ولا توجد إلا به. أم صلة وصل لا أدري شخصيا معناها.
... إلى جسر. والجسر بناء قائم بذاته يحتاجه الآخرون ولا يحتاجهم، أو على الأصح؛ هو صاحب اليد العليا في معادلة الحاجة المتبادلة.
يمد اثنان من الجسور التي بدأت تدخل الخدمة تباعا جسورا للتعاون والتآزر مع جيران الجنوب؛ أحدهما في مفتتح طريق والآخر في منتهى طريق. وهما بهذا يخرجاننا من جدل الهمز والصلة، ويرفعان الخلاف. نحن جسر للربط بين عالمين تلاقيا فينا، واختزلنا قيمهما، ومثلنا الصورة الناصعة لامتزاجهما. ونحن الأمناء على مستقبل ذلك التلاقي، وحفظة تاريخ الامتزاج الخلاق، وأمناء سير القافلة نحو المصير المشترك.
بهذه الصيغة يمتزج المادي والمعنوي في جسر التآزر، والجسر الذي يربط بين ضفتي نهر السنغال، وبهذه الصورة تقدم موريتانيا اختلافها، وتنوعها، ودورها المصيري في تاريخ هذه المنطقة.
هناك مبدآن يحركان اليد العاملة في بناء الوطن هذه الحقبة؛ هما مبدأ المشاريع التي تغني عن غيرها؛ والنقل العمومي بمختلف وسائله (طرقا، وجسورا، ومرْكبات) واحد من المشاريع الكبرى في كل دول العالم. النقل وسيلة التقاء أطراف الوطن وانتقال الأعراف والخبرات، والامتزاج الثقافي والاجتماعي بمختلف مكوناته، وهو وسيلة الوصول إلى الخدمات النوعية التي يتعذر توفيرها في كل مكان.
وهو وسيلة التشغيل الأكثر سهولة وشعبية، لبساطة مهنه. وهو وسيلة فعالة للحد من مخاطر الاختناق الناجم عن انبعاث الأدخنة من السيارات. وهو وسيلة الطبقة المتوسطة، والطبقات الدنيا، إلى ممارسة حياة طبيعية بمقتضيات الكرامة الإنسانية. تعزيز أسطول الشركة الوطنية للنقل بخمسين حافلة يعني مائة فرصة عمل، وعشرات الآلاف من فرص الانتقال السهل من مكان إلى مكان في عاصمة ترامت أطرافها.
والمبدأ الثاني هو مبدأ ابتكار حلول لم تجرب في هذا البلد؛ فقصارى ما كانت تطمح إليه حكوماتنا هو ترميم مقاطع من طريق الأمل، وتعبيد بعض الطرق بين بعض المدن، وأخرى في داخل مدينة نواكشوط، والخروج من هذه الدائرة بإطلاق مشاريع أخرى؛ جسور، وطرق طويلة، وربما سكة حديد، هو الذي سيخرج البلد من الدوران في مربع فارغ.
الحقبة نفسها جسر آمن للعبور بالأسس التي وضعها المؤسسون إلى بلد ذي شخصية بمقومات صالحة للقيام بالمسؤولية التاريخية التي طمحوا إليها. تستعيد هذه المرحلة من تاريخنا السياسي مصداقية جهاز الدولة شيئا فشيئا، وتوجه الدولة إلى خدمة المجتمع بعد أن عاشا حقبا في خصام. وهي عمل متواصل لجَسْر الهوة بين الأغنياء والفقراء، وإعادة بناء وتأهيل جسر الطبقة المتوسطة الذي يعد ضرورة حياتية للمجتمعات والدول.
لا، لا. ليس مهزلة.. المهزلة حقا هي أن لا ترى التغيير من حولك، وأنت...